هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالرئيسية  بوابتيبوابتي  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 شرح الأربعين النووية (حديث إنما الأعمال بالنيات)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هدي السلف
مشرف مميّز
مشرف مميّز
هدي السلف


عدد المساهمات : 199

نقاط المساهمات : 5043

حصيلة الإعجابات : 19

تاريخ التسجيل : 23/01/2012


شرح الأربعين النووية (حديث إنما الأعمال بالنيات) Empty
مُساهمةموضوع: شرح الأربعين النووية (حديث إنما الأعمال بالنيات)   شرح الأربعين النووية (حديث إنما الأعمال بالنيات) Emptyالأحد 29 يناير 2012, 12:27




قال شيخ الإسلام رَحِمهُ الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المستوجب لصفات المدح والكمال، المستحق للحمد على كل حال، لا يحصي أحد ثناءً عليه، بل هو كما أثني على نفسه بأكمل الثناء وأحسن المقال، فهو المنعم على العباد بالخلق، وبإرسال الرسل إليهم، وبهداية المؤمنين منهم لصالح الأعمال. وهو المتفضل عليهم بالعفو عنهم، وبالثواب الدائم، بلا انقطاع ولا زوال. له الحمد في الأولى والآخرة، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، متصلا بلا انفصال
.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي هدي به من الضلال، وأمر المؤمنين بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، ووضع عنهم الآصار والأغلال، فصلى الله عليه وعلى آله خير آل، وعلى أصحابه الذين كانوا نصرة للدين، حتى ظهر الحق وانطمست أعلام الضلال.
أما بعد: فإن الله تعالى خلق الخلق لما شاء من حكمته، وأسبغ عليهم ما لا يحصونه من نعمته، وكَرَّمَ بني آدم بأصناف كرامته، وخص عباده المؤمنين باصطفائه وهدايته، وجعل أمة محمد خير أمة أخرجت للناس من بَرِيَّته. وبعث فيهم رسولا من أنفسهم، يعلمون صدقه وأمانته وجميل سيرته، يتلو عليهم آياته؛ ليخرجهم من ظلمة الكفر وحيرته، ويهديهم إلى صراط مستقيم، ويدعوهم إلى عبادته
.
وأنزل عليهم أفضل كتاب أنزله إلى خليقته، وجعله آية باقية إلى قيام ساعته، معجزة باهرة مُبْدِية عن حجته، وبينة ظاهرة موضحة لدعوته، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويدلهم على طريق جنته. فالسعيد من اعتصم بكتاب الله، واتبع الرسول في سنته وشريعته. والمهتدي بمناره، المقْتَفِي لآثاره هو أفضل الخلق في دنياه وآخرته، والمحيي لشيء من سنته له أجرها وأجر من عمل بها من غير نقصان في أجر طاعته، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، بل يضاعف الحسنات بفضله ورحمته.
وإحياء سنته يشمل أنواعا من البر لسعة فضل الله وكرامته، فيكون بالتبليغ لها والبيان لأجل ظهور الحق ونصرته، ويكون بالإعانة عليها بإنفاق المال والجهاد؛ إعانة على دين الله وعلو كلمته، فالجهاد بالمال مقرون بالجهاد بالنفس، قد ذكره الله تعالى قبله وفي غير موضع لعظم منزلته وثمرته، وقد قال النبي : «من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خَلَفَهُ في أهله بخير فقد غزا» وقال: «من فطر صائما فله مثل أجره» ومثوبته، لا سيما ما يبقي نفعه بعد موت الإنسان ومصيره إلى تربته، كما قال في الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث»، فهذه الثلاث هي من أعماله الباقية بعد ميتته، بخلاف ما ينفعه بعد موته من أعمال غيره من الدعاء والصدقة والعتق؛ فإن ذلك ليس من سعيه، بل من سَعْي غيره وشفاعته، وكما يلحق بالمؤمن من يدخله الله الجنة من ذريته
.
وأصل العمل الصالح هو إخلاص العبد لله في نيته، فإنه سبحانه إنما أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وخلق الخلق لعبادته، وهي دعوة الرسل لكافة بريته، كما ذكر ذلك في كتابه على ألسنة رسله بأوضح دلالته؛ ولهذا كان السلف يستحبون أن يفتتحوا مجالسهم وكتبهم وغير ذلك بحديث: «إنما الأعمال بالنيات» في أول الأمر وبدايته فنجري في ذلك على منهاجهم؛ إذ كانوا أفضل جيش الإسلام ومقدمته، فنقول مستعينين بالله على سلوك سبيل أهل ولايته وأحبته:
عن يحيي بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التَّيمِي، عن علقمة بن وَقَّاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

هذا حديث صحيح متفق على صحته، تَلَقَّتْه الأمة بالقبول والتصديق، مع أنه من غرائب الصحيح؛ فإنه، وإن كان قد روي عن النبي من طرق متعددة، كما جمعها ابن مِنْدَه وغيره من الحفاظ، فأهل الحديث متفقون على أنه لا يصح منها إلا من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه المذكورة، ولم يروه عنه إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد إلا يحيي بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة.
ورواه عن يحيي بن سعيد أئمة الإسلام، يقال: إنه رواه عنه نحو من مائتي عالم، مثل: مالك، والثوري، وابن عيينة، وحماد، وحماد، وعبد الوهاب الثقفي، وأبي خالد الأحمر، وزائدة، ويحيي بن سعيد القطان، ويزيد بن هارون، وغير هؤلاء خلق من أهل مكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام، وغيرها، من شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق وطبقتهم، ويحيي بن معين، وعلي بن المديني، وأبي عبيد.

ولهذا الحديث نظائر من غرائب الصحاح، مثل: حديث ابن عمر، عن النبي : أنه نهى عن بيع الولاء وهبته. أخرجاه، تفرد به عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
ومثل حديث أنس: أن النبي دخل مكة وعلى رأسه المغفر فقيل: إن ابن خَطَل متعلق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه» أخرجاه، تفرد به الزهري عن أنس، وقيل: تفرد به مالك عن الزهري، فالحديث الغريب: ما تفرد به واحد، وقد يكون غريب المتن، أو غريب الإسناد، ومثل أن يكون متنه صحيحًا من طريق معروفة، وروي من طريق أخرى غريبة.
ومن الغرائب ما هو صحيح، وغالبها غير صحيح، كما قال أحمد: اتقوا هذه الغرائب فإن عامتها عن الكذابين؛ ولهذا يقول الترمذي في بعض الأحاديث: إنه غريب من هذا الوجه.
والترمذي أول من قسم الأحاديث إلى صحيح، وحسن، وغريب، وضعيف، ولم يعرف قبله هذا التقسيم عن أحد، لكن كانوا يقسمون الأحاديث إلى صحيح، وضعيف، كما يقسمون الرجال إلى ضعيف، وغير ضعيف، والضعيف عندهم نوعان: ضعيف لا يحتج به، وهو الضعيف في اصطلاح الترمذي، والثاني: ضعيف يحتج به، وهو الحسن في اصطلاح الترمذي، كما أن ضعف المرض في اصطلاح الفقهاء نوعان: نوع يجعل تبرعات صاحبه من الثلث، كما إذا صار صاحب فراش، ونوع يكون تبرعات صاحبه من رأس المال، كالمرض اليسير الذي لا يقطع صاحبه، ولهذا يوجد في كلام أحمد وغيره من الفقهاء أنهم يحتجون بالحديث الضعيف؛ كحديث عمرو بن شعيب، وإبراهيم الهَجْري وغيرهما؛ فإن ذلك الذي سماه أولئك ضعيفًا هو أرفع من كثير من الحسن، بل هو مما يجعله كثير من الناس صحيحًا، والترمذي قد فسر مراده بالحسن أنه ما تعددت طرقه، ولم يكن فيها متهم، ولم يكن شاذًا.


من مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام إبن تيمية




وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث‏:‏ قال أبو عبد الله‏:‏ ليس في أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم -شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث‏.‏

واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي، فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني، على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال ربعه، واختلفوا في تعيين الباقي‏.‏

وقال ابن مهدي أيضا‏:‏ يدخل في ثلاثين بابا من العلم‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ يدخل في سبعين بابا، ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة‏.‏

وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضا‏:‏ ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب‏.‏

ووجه البيهقي كونه ثلث العلم، بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد‏:‏ نية المؤمن خير من عمله، فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين‏.‏

وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم، أنه أراد أحد القواعد الثلاثة التي ترد إليها جميع الأحكام عنده، وهي هذا و ‏"‏ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ‏"‏ و ‏"‏ الحلال بين والحرام بين ‏"‏ الحديث‏.‏


ثم إن هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ، مغترا بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك‏.‏

وقال أبو جعفر الطبري‏:‏ قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردودا لكونه فردا، لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد، وهو كما قال، فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد وتفرد به من فوقه، وبذلك جزم الترمذي والنسائي والبزار وابن السكن وحمزة بن محمد الكناني، وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال لكن بقيدين‏:‏ أحدهما‏:‏ الصحة لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن منده وغيرهما‏.‏

ثانيهما‏:‏ السياق لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم‏:‏ ‏"‏ يبعثون على نياتهم‏"‏، وحديث ابن عباس‏:‏ ‏"‏ ولكن جهاد ونية‏"‏، وحديث أبي موسى‏:‏ ‏"‏ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ‏"‏ متفق عليهما، وحديث ابن مسعود‏:‏ ‏"‏ رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته ‏"‏ أخرجه أحمد، وحديث عبادة‏:‏ ‏"‏ من غزا وهو لا ينوي إلا عقالا فله ما نوى ‏"‏ أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره، وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر، إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل‏.‏

نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد‏:‏ فحكى محمد بن علي بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفسا، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلاثمائة، وروى أبو موسى المديني عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي قال‏:‏ كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى‏.‏

قلت‏:‏ وأنا أستبعد صحة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المائة، وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم، كما سيأتي مثال لذلك في الكلام على حديث ابن عمر في غسل الجمعة إن شاء الله تعالى‏.‏‏(‏1/12‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏على المنبر‏)‏ بكسر الميم، واللام للعهد، أي منبر المسجد النبوي، ووقع في رواية حماد بن زيد عن يحيى في ترك الحيل‏:‏ سمعت عمر يخطب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏ كذا أورد هنا، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، أي كل عمل بنيته‏.‏

وقال الخوبي‏:‏ كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتقاء لوعيده‏.‏

ووقع في معظم الروايات بإفراد النية، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها‏.‏

بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة فناسب جمعها، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص، وهو واحد للواحد الذي لا شريك له‏.‏

ووقعت في صحيح ابن حبان بلفظ ‏"‏ الأعمال بالنيات ‏"‏ بحذف ‏"‏ إنما ‏"‏ وجمع الأعمال والنيات، وهي ما وقع في كتاب الشهاب للقضاعي، ووصله في مسنده كذلك، وأنكره أبو موسى المديني، كما نقله النووي وأقره، وهو متعقب برواية ابن حبان، بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ ‏"‏ الأعمال بالنية‏"‏، وكذا في العتق من رواية الثوري، وفي الهجرة من رواية حماد بن زيد، ووقع عنده في النكاح بلفظ ‏"‏ العمل بالنية ‏"‏ بإفراد كل منهما‏.‏

والنية بكسر النون وتشديد التحتانية على المشهور، وفي بعض اللغات بتخفيفها‏.‏

قال الكرماني‏:‏ قوله ‏"‏ إنما الأعمال بالنيات ‏"‏ هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين، واختلف في وجه إفادته، فقيل‏:‏ لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر، لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية، وقيل لأن إنما للحصر‏.‏

وهل إفادتها له بالمنطوق أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع أو العرف، أو تفيده بالحقيقة أو بالمجاز‏؟‏

ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا، بل نقله شيخنا شيخ الإسلام عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل العربية، واحتج بعضهم بأنها لو كانت للحصر لما حسن ‏"‏إنما قام زيد ‏"‏ في جواب ‏"‏هل قام عمرو‏؟‏‏"‏، أجيب بأنه يصح أنه يقع في مثل هذا الجواب ‏"‏ما قام إلا زيد ‏"‏وهي للحصر اتفاقا‏.‏

وقيل‏:‏ لو كانت للحصر لاستوى ‏"‏إنما قام زيد ‏"‏ مع ‏"‏ما قام إلا زيد‏"‏، ولا تردد في أن الثاني أقوى من الأول، وأجيب بأنه لا يلزم من هذه القوة نفي الحصر، فقد يكون أحد اللفظين أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع، كسوف والسين‏.‏

وقد وقع استعمال إنما موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنما تجزون ما كنتم تعملون‏)‏ وكقوله‏:‏ ‏(‏وما تجزون إلا ما كنتم تعملون‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إنما على رسولنا البلاغ المبين‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ما على الرسول إلا البلاغ‏)‏ ‏.‏

ومن شواهده قول الأعشى‏:‏

ولست بالأكثر منهم حصى * وإنما العزة للكاثر

يعني ما ثبتت العزة إلا لمن كان أكثر حصى‏.‏

واختلفوا‏:‏ هل هي بسيطة أو مركبة، فرجحوا الأول، وقد يرجح الثاني، ويجاب عما أورد عليه من قولهم إن ‏"‏ إن ‏"‏ للإثبات و ‏"‏ ما ‏"‏ للنفي فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد، بأن يقال مثلا‏:‏ أصلهما كان للإثبات والنفي، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما، بل أفادا شيئا آخر، أشار إلى ذلك الكرماني قال‏:‏

وأما قول من قال‏:‏ إفادة هذا السياق للحصر، من جهة أن فيه تأكيدا بعد تأكيد، وهو المستفاد من ‏"‏إنما ‏"‏ ومن الجمع‏.‏ فمتعقب بأنه من باب إيهام العكس، لأن قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد، ظن أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ استدل على إفادة ‏"‏إنما ‏"‏ للحصر بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث ‏"‏ إنما الربا في النسيئة‏"‏، وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه، فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر‏.‏

وتُعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزلا‏.‏‏(‏1/13‏)‏

وأما من قال‏:‏ يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله ‏"‏ لا ربا إلا في النسيئة ‏"‏ لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر، بل يقويه ويشعر بأن مفاد الصيغتين عندهم واحد، وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه‏.‏

وأوضح من هذا حديث ‏"‏ إنما الماء من الماء ‏"‏ فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث ‏"‏ إذا التقى الختانان‏"‏‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ إنما لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازا يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك، وأن أصل ورودها للحصر، لكن قد يكون في شيء مخصوص، كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنما الله إله واحد‏)‏ فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية، وإلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم والقدرة، وكقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنما أنت منذر‏)‏ فإنه سيق باعتبار منكري الرسالة، وإلا فله - صلى الله عليه وسلم - صفات أخرى كالبشارة، إلى غير ذلك من الأمثلة‏.‏

وهي - فيما يقال - السبب في قول من منع إفادتها للحصر مطلقا‏.‏

‏(‏تكميل‏)‏ ‏:‏ الأعمال تقتضي عاملين، والتقدير‏:‏ الأعمال الصادرة من المكلفين، وعلى هذا هل تخرج أعمال الكفار‏؟‏ الظاهر الإخراج، لأن المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصح من الكافر، وإن كان مخاطبا بها معاقبا على تركها ولا يرد العتق والصدقة لأنهما بدليل آخر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالنيات‏)‏ الباء للمصاحبة، ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى‏:‏ أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في إيجاده، وعلى الأول فهي من نفس العمل فيشترط أن لا تتخلف عن أوله‏.‏

قال النووي‏:‏ النية‏:‏ القصد، وهي‏:‏ عزيمة القلب‏.‏

وتعقبه الكرماني‏:‏ بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد‏.‏

واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط‏؟‏ والمرجح أن إيجادها ذكرا في أول العمل ركن، واستصحابها حكما بمعنى‏:‏ أن لا يأتي بمناف شرعا شرط‏.‏

ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فقيل‏:‏ تعتبر، وقيل‏:‏ تكمل، وقيل‏:‏ تصح، وقيل‏:‏ تحصل، وقيل‏:‏ تستقر‏.‏

قال الطيبي‏:‏ كلام الشارع محمول على بيان الشرع، لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان، فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع، فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي‏.‏

وقال البيضاوي‏:‏ النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه‏.‏

والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل، والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية، إذ التقدير‏:‏ لا عمل إلا بالنية، فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح، وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة‏.‏

وقال شيخنا شيخ الإسلام‏:‏ الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية، لقوله في الحديث‏:‏ ‏"‏ فمن كانت هجرته ‏"‏ إلى آخره‏.‏

وعلى هذا يقدر المحذوف كونا مطلقا من اسم فاعل أو فعل‏.‏

ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان فتدخل الأقوال‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها‏.‏

وأما التروك فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق عليها لفظ العمل‏.‏

وقد تعقب على من يسمي القول عملا لكونه عمل اللسان، بأن من حلف لا يعمل عملا فقال قولا لا يحنث‏.‏

وأجيب بأن مرجع اليمين إلى العرف، والقول لا يسمى عملا في العرف ولهذا يعطف عليه‏.‏

والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازا، وكذا الفعل، لقوله تعالى ‏(‏ولو شاء ربك ما فعلوه‏)‏ بعد قوله‏:‏ ‏(‏زخرف القول‏)‏ ‏.‏

وأما عمل القلب كالنية فلا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل، والمعرفة‏:‏ وفي تناولها نظر، قال بعضهم‏:‏ هو محال لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف فيلزم أن يكون عارفا قبل المعرفة‏.‏

وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله‏:‏ إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأن كل ذي عقل يشعر مثلا بأن له من يدبره، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالا‏.‏ ‏(‏1/ 14‏)‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ الذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال، والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال، ورجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى‏.‏

وفي هذا الكلام إبهام أن بعض العلماء لا يرى باشتراط النية، وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الرسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء، وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا‏.‏

نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل كما هو معروف في مبسوطات الفقه‏.‏


‏(‏تكميل‏)‏ ‏:‏ الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير، والتقدير الأعمال بنياتها، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلا صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضا أو نفلا، ظهرا مثلا أو عصرا، مقصورة أو غير مقصورة‏.‏ وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد‏؟‏ فيه بحث‏.‏

والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر مثلا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم‏.‏


قوله‏:‏ ‏(‏وإنما لكل امرئ ما نوى‏)‏ قال القرطبي‏:‏ فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنها مؤكدة‏.‏

وقال غيره‏:‏ بل تفيد غير ما أفادته الأولى، لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك‏.‏ والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه‏.‏ وقال ابن دقيق العيد‏:‏ الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئا يحصل له - يعنى إذا عمله بشرائطه - أو حال دون عمله له ما يعذر شرعا بعدم عمله، وكل ما لم ينوه لم يحصل له‏.‏

ومراده بقوله ما لم ينوه أي‏:‏ لا خصوصا ولا عموما، أما إذا لم ينو شيئا مخصوصا لكن كانت هناك نية عامة تشمله، فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء‏.‏

ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى‏.‏


وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلى الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد، فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها، لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة، فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح، لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلا بد فيه من القصد إليه، بخلاف تحية المسجد والله أعلم‏.‏

وقال النووي‏:‏ أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة، لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهرا مثلا أو عصرا، ولا يخفى أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة‏.‏

وقال ابن السمعاني في أماليه‏:‏ أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القربة، كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة‏.‏

وقال غيره‏:‏ أفادت أن النيابة لا تدخل في النية، فإن ذلك هو الأصل، فلا يرد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره، فإنها على خلاف الأصل‏.‏

وقال ابن عبد السلام‏:‏ الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها‏.‏

وأفاد أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له، كالأذكار والأدعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة‏.‏


ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا، ومن ثم قال الغزالي‏:‏ حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقا، أي المجرد عن التفكر‏.‏

قال‏:‏ وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب انتهى‏.‏

ويؤيده قوله -صلى الله عليه وسلم -‏:‏‏"‏ في بضع أحدكم صدقة ‏"‏ ثم قال في الجواب عن قولهم ‏"‏ أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر‏؟‏ ‏"‏‏:‏ ‏"‏ أرأيت لو وضعها في حرام‏"‏‏.‏

وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح لأنه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده‏.‏

وخص من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة، فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه كتحية المسجد كما تقدم، وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة فإن عدتها تنقضي، لأن المقصود حصول براءة الرحم وقد وجدت، ومن ثم لم يحتج المتروك إلى نية‏.‏


ونازع الكرماني في إطلاق الشيخ محيي الدين كون المتروك لا يحتاج إلى نية‏:‏ بأن الترك فعل وهو كف النفس، وبأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلا بد فيها من قصد الترك، وتعقب بأن قوله‏:‏ ‏"‏ الترك فعل ‏"‏ مختلف فيه، ومن حق المستدل على المانع أن يأتي بأمر متفق عليه‏.‏ ‏(‏1/ 15‏)‏

وأما استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها‏؟‏ والذي أورده استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها والذي أورده هل يحصل الثواب بدونها‏؟‏ والتفاوت بين المقامين ظاهر‏.‏

والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلا ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفا من الله تعالى، فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه، لا الترك المجرد‏.‏

و
الله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال الكرماني‏:‏ إذا قلنا‏:‏ إن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله‏:‏ ‏"‏ وإنما لكل امرئ ما نوى ‏"‏ نوعان من الحصر‏:‏ قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لكل امرئ ما نواه، والتقديم المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمن كانت هجرته إلى دنيا‏)‏


قوله‏:‏ ‏(‏هجرته‏)‏ الهجرة‏:‏ الترك، والهجرة إلى الشيء‏:‏ الانتقال إليه عن غيره‏.‏

وفي الشرع‏:‏ ترك ما نهى الله عنه‏.‏

وقد وقعت في الإسلام على وجهين‏:‏ الأول‏:‏ الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة، الثاني‏:‏ الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي _صلى الله عليه وسلم _بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين‏.‏

وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا‏.‏

فإن قيل‏:‏ الأصل تغاير الشرط والجزاء، فلا يقال مثلا‏:‏ من أطاع أطاع وإنما يقال مثلا من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين، فالجواب أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق، ومن أمثلته قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا‏)‏ وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس، كقولهم‏:‏ أنت أنت أي‏:‏ الصديق الخالص، وقولهم‏:‏ هم هم أي‏:‏ الذين لا يقدر قدرهم، وقول الشاعر‏:‏ ‏"‏ أنا أبو النجم وشعري شعري‏"‏، أو هو مؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب‏.‏

وقال ابن مالك‏:‏ قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشهرة وعدم التغير فيتحد بالمبتدأ لفظا كقول الشاعر‏:‏

خليلي خليلي دون ريب وربما * ألان امرؤ قولا فظن خليلا

وقد يفعل مثل هدا بجواب الشرط كقولك‏:‏ من قصدني فقد قصدني، أي فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده‏.‏

وقال غيره‏:‏ إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم وإما في التحقير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى دنيا‏)‏ بضم الدال، وحكى ابن قتيبة كسرها، وهي فعلى من الدنو أي‏:‏ القرب، سميت بذلك لسبقها للأخرى‏.‏

وقيل‏:‏ سميت دنيا لدنوها إلى الزوال‏.‏

واختلف في حقيقتها فقيل‏:‏ ما على الأرض من الهواء والجو، وقيل‏:‏ كل المخلوقات من الجواهر والأعراض، والأولى أولى‏.‏

لكن يزاد فيه مما قبل قيام الساعة، ويطلق على كل جزء منها مجازا‏.‏ ‏(‏1/ 17‏)‏

ثم إن لفظها مقصور غير منون، وحكى تنويها، وعزاه ابن دحية إلى رواية أبي الهيثم الكشميهني وضعفها، وحكي عن ابن مغور‏:‏ أن أبا الهروي في آخر أمره كان يحذف كثيرا من رواية أبي الهيثم حيث ينفرد، لأنه لم يكن من أهل العلم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا ليس على إطلاقه، فإن في رواية أبي الهيثم مواضع كثيرة أصوب من رواية غيره، كما سيأتي مبينا في مواضعه‏.‏

وقال التيمي في شرحه‏:‏ قوله دنيا هو تأنيث الأدنى ليس بمصروف، لاجتماع الوصفية ولزوم حرف التأنيث‏.‏

وتعقب بأن لزوم التأنيث للألف المقصورة كاف في عدم الصرف، وأما الوصفية فقال ابن مالك‏:‏ استعمال دنيا منكرا فيه إشكال لأنها أفعل التفضيل، فكان من حقها أن تستعمل باللام كالكبرى والحسنى، قال‏:‏ إلا أنها خلعت عنها الوصفية أو أجريت مجرى ما لم يكن وصفا قط، ومثله قول الشاعر‏:‏ وإن دعوت إلى جلي ومكرمة * يوما سراة كرام الناس فادعينا

وقال الكرماني‏:‏ قوله إلى يتعلق بالهجرة إن كان لفظ كانت تامة، أو هو خبر لكانت إن كانت ناقصة‏.‏

ثم أورد ما محصله‏:‏ إن لفظ كان إن كان للأمر الماضي فلا يعلم ما الحكم بعد صدور هذا القول في ذلك‏.‏

وأجاب بأنه‏:‏ يجوز أن يراد بلفظ كان الوجود من غير تقييد بزمان، أو يقاس المستقبل على الماضي، أو من جهة أن حكم المكلفين سواء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يصيبها‏)‏ أي‏:‏ يحصلها، لأن تحصيلها كإصابة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو امرأة‏)‏ قيل‏:‏ التنصيص عليها من الخاص بعد العام للاهتمام به‏.‏


وتعقبه النووي بأن لفظ دنيا نكرة، وهي لا تعم في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها‏.‏

وتعقب بكونها في سياق الشرط فتعم، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير، لأن الافتتان بها أشد‏.‏

وقد تقدم النقل عمن حكى أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس ولم نقف على تسميته‏.‏

ونقل ابن دحية أن اسمها قيلة بقاف مفتوحة ثم تحتانية ساكنة، وحكى ابن بطال عن ابن سراج‏:‏ أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى العربية ويراعون الكفاءة في النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها من كان لا يصل إليها قبل ذلك انتهى‏.‏

ويحتاج إلى نقل ثابت أن هذا المهاجر كان مولى وكانت المرأة عربية، وليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه بل قد زوج خلق كثير منهم جماعة من مواليهم وحلفائهم قبل الإسلام، وإطلاقه أن الإسلام أبطل الكفاءة
في مقام المنع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فهجرته إلى ما هاجر إليه‏)‏ يحتمل أن يكون ذكره بالضمير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها، وإنما أبرز الضمير في الجملة التي قبلها وهي المحذوفة لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما، بخلاف الدنيا والمرأة فإن السياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ يحتمل أن يكون قوله ‏"‏ إلى ما هاجر إليه ‏"‏ متعلقا بالهجرة، فيكون الخبر محذوفا والتقدير قبيحة أو غير صحيحة مثلا، ويحتمل أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت، انتهى‏.‏

وهذا الثاني هو الراجح لأن الأول يقتضي أن تلك الهجرة مذمومة مطلقا، وليس كذلك، إلا أن حمل على تقدير شيء يقتضي التردد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى بهجرته مفارقة دار الكفر، وتزوج المرأة معا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يثاب على قصد الهجرة لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله، لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف‏.‏

ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي عن أنس قال‏:‏ تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت‏:‏ إني قد أسلمت، فإن أسلمت تزوجتك‏.‏

فأسلم فتزوجته‏.‏‏.‏

وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية، أو بطوافه العبادة وملازمة الغريم‏.‏ ‏(‏1/ 18‏)‏

واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر‏.‏

وأما إذا نوى العبادة وخالطها بشيء مما يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء، فإن كان ابتداؤه لله خالصا لم يضمره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب أو غيره‏.‏

والله أعلم‏.‏


واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأن فيه العمل يكون منتفيا إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة الحكم، وعلى أن الغافل لا تكليف عليه، لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد، وعلى أن من صام تطوعا بنية قبل الزوال أن لا يحسب له إلا من وقت النية وهو مقتضى الحديث، لكن تمسك من قال بانعطافها بدليل آخر، ونظيره حديث‏:‏ ‏"‏ من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها ‏"‏ أي‏:‏ أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى، وعلى أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة ثم ذكر عن ذلك المجلس شيئا لا يمكن غفلتهم عنه، ولم يذكره غيره أن ذلك لا يقدح في صدقه، خلافا لمن أعل بذلك، لأن علقمة ذكر أن عمر خطب به على المنبر، ثم لم يصح من جهة أحد عنه غير علقمة‏.‏

واستدل بمفهومه على أن ما ليس بعمل لا تشترط النية فيه، ومن أمثلة ذلك‏:‏ جمع التقديم، فإن الراجح من حيث النظر أنه لا يشترط له نية، بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام وقال‏:‏ الجمع ليس بعمل، وإنما العمل الصلاة‏.‏


ويقوي ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطا لأعلمهم به، واستدل به على أن العمل إذا كان مضافا إلى سبب ويجمع متعدده جنس أن نية الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره، لأن معنى الحديث‏:‏ أن الأعمال بنياتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب، وعلى هذا لو كانت عليه كفارة - وشك في سببها - أجزأه إخراجها بغير تعيين‏.‏

وفيه زيادة النص على السبب، لأن الحديث سيق في قصة المهاجر لتزويج المرأة، فذكر الدنيا القصة زيادة في التحذير والتنفير‏.‏


وقال شيخنا شيخ الإسلام‏:‏ فيه إطلاق العام وإن كان سببه خاصا، فيستنبط منه الإشارة إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسيأتي ذكر كثير من فوائد هذا الحديث في كتاب الإيمان حيث قال المصنف في الترجمة، فدخل فيه العبادات والأحكام إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق‏.‏

من شرح فتح الباري لإبن حجر العسقلاني باب بدئ الوحي


شرح الأربعين النووية (1) للشيخ ابن العثيمين رحمه الله تعالى للإستماع والحفظ

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح الأربعين النووية (حديث إنما الأعمال بالنيات)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» حديث (( اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان ))، حديث ضعيف
»  ‫الأعمال المستحبة فى عشر ذى الحجة‬‎
» شرح حديث أبي اليسر
» تفسير حديث: بدأ الإسلام غريبا
» ما صحة حديث رمضان أوله رحمة ، وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار؟

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: المنتدى الإسلامي :: الأحاديث النبوية الشريفة-
انتقل الى: