في قوله تعالى في سورة الذاريات: { وَ بِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (الذاريات: 1)
وصف للمحسنين من المتقين، و هم خيرهم و أفضلهم،
قال تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*
آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *
وَ بِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }
(الذاريات:18،17،16،15)
ومعلوم أن الإحسان هو أعلى مقامات الدين،
فليس المراد مجرد ذكر كونهم يقومون بالليل و يستغفرون،
و لكن كونهم لا ينامون من الليل إلا قليلا،
و كونهم يستغفرون في أكمل الأحوال و أفضل الأوقات
و أشقها استيقاظاً على الناس و أحبها راحة لديهم أو انشغالا بشهواتهم،
و هو السحر،
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم: ينزل ربنا تبارك و تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا
حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له،
من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" متفق عليه.
و عن أبي أمامة قال: قيل يا رسول الله : أي الدعاء أسمع ؟
قال: جوف الليل الآخر. رواهالترمذي و حسنه، وحسنه أيضا الألباني.
و عبر هنا بالفعل الذي يدل على الحدوث و التجدد،
فإنهم و إن كانوا يمدون صلاتهم إلى السحر،
إلا أن حالهم عندئذ ليس بحال المانِّ بعمله المعجب به،
و إنما يتجدد لهم في هذا الوقت
و هم على تلك الحال من معاني الإيمان و معرفة الله
ما يوجب لهم طلب المغفرة و تكراره،
فكانوا كما قال الله تعالى:
{ وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ *
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَ هُمْ لَهَا سَابِقُونَ } (المؤمنون:61،60)
فهم يفتتحون قيامهم بالثناء على الله و طلب مغفرته
ـ كما هو ثابت في السنة ـ
ثم يتجدد لهم ما يدعوهم لإعادته و تكراره في ختامه أيضا،
و هذا لكونهم محسنين يعبدون الله كأنهم يرونه،
فيحتقرون أعمالهم في جنب الله
و يتهمون أنفسهم ويقرون عليها بالتقصير و التفريط في حقه تعالى،
كما ثبت أن الملائكة يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.